اخر الاخبارالمال والاعمال

النخب الحضرية تجاهلت المزارعين أمداً طويلاً

ft

تعرضت الحركة للشلل في كل من باريس وبرلين، فيما رشق المزارعون البولنديون مباني الاتحاد الأوروبي بالبيض، وطالب البلغاريون باستقالة وزير الزراعة. وفي حين يقطع المزارعون المعاصرون الطرق في انتفاضتهم بالجرارات، بدلاً من العربات الصغيرة التي تجرها الثيران، لكن الرسالة التي يحملونها للنخبة الحضرية قديمة قِدم القرون، ومفادها، لا تتجاهلوا من يضنيهم العمل في الأرض، حتى ينتجوا ما تتناولونه من طعام.

يعد هذا الأمر برهاناً على مدى انفصال القادة السياسيين وصناع الرأي عن الزراعة، إلى حد توقع قلة قليلة منهم وقوع ذلك، ويبدو أن الحكومات الراغبة في معالجة التغير المناخي، لم تفكر قبلاً في تداعيات تحركاتها على صناعة تواجه زيادة في تكاليف الإنتاج، وانخفاضاً بأسعار الغذاء العالمية.

واضطرت الحكومة الهولندية إلى تقديم تنازلات في حظرها لاستخدام النيتروجين، بعد حصول حزب مُشكّل على عُجالة من المزارعين المُحتجين على 16 مقعداً في مجلس الشيوخ. ويساور بروكسل ذُعر كبير من احتمالية استغلال اليمين المتطرف لهذه القضايا في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو. وفي بريطانيا، أصبح ريشي سوناك، أول رئيس للحكومة يلقي كلمة أمام مؤتمر الاتحاد الوطني للمزارعين منذ غوردون براون في 2008. واتجهت بعض مقاعد المحافظين بالفعل في الانتخابات الفرعية إلى الديمقراطيين الليبراليين، وتشي استطلاعات الرأي بحذو الكثير من المقاعد حذوها.

ويتمثل التحدي الذي يواجه الحكومات في الموازنة بين الحاجة لتقليص الانبعاثات الكربونية، والرغبة في الإبقاء على انخفاض تكاليف إنتاج الغذاء من ناحية، ومطالب المحافظين على البيئة «البرجوازيين»، الذين يريدون إخراج الأراضي من دورة الإنتاج لكي تُعاد إلى طبيعتها البرية أو زراعة الأشجار من الناحية الأخرى.

ومن المشروع مطالبة كبار ملاك الأراضي، ممن استفادوا على نحو غير متناسب من الإعانات، بموجب السياسة الزراعية المُشتركة، بالحد من التلوث، لكن لا يمكن اعتبار إنتاج الغذاء أمراً مُسلّماً به، ويتعين على صانعي السياسة تقبّل مسالة أن ظروف الطقس القاسية تعرّض المزارعين إلى مزيد من عدم اليقين، وكذلك تقبّل تبنيهم إدارة استراتيجية في الطلب على الأراضي. وقد اعتبر بعض المزارعين القانون الذي أقره الاتحاد الأوروبي العام الماضي، ويتعهد بتخصيص 20 % من أراضي التكتل وسواحله لأهداف استعادة الطبيعة، بمثابة إقصاءً لإدارتهم للريف.

ولا ينبغي للغضب الناجم عن فقدان الإعانات، أن يطغى على ما يبدو أنه خوف أعمق من تعرض أسلوب حياة بكامله للتهديد. وتتعرض الحيازات الصغيرة للإفلاس في أرجاء أوروبا، ويشهد الريف شيخوخة لسكانه، بينما تفكر الأجيال الشابة فيما إذا كان بإمكانها التعامل مع الضغوط النفسية الناجمة عن صناعة يمكن فيها لأوجه القلق المالية أن تسحق صحتهم العقلية. لذلك، في فرنسا، ارتفعت معدلات الانتحار بنسبة 20 % بين المزارعين عن المتوسط الوطني.

نادراً ما تلقي وسائل الإعلام الضوء على أي من ذلك، وتميل الأفلام عن الفقر إلى تصوير خلفيات حضرية، لا تلالاً متموجة، كان الوثائقي الوحيد الذي شاهدته ويعرّي الحقيقة حقاً في إنجلترا، من إخراج مولي جينين، ويُدعى «أكذوبة الأرض»، فقد فتح عيني على وحشية ما كنت أتصور أنها حياة ريفية رومانسية. وأطلعني الوثائقي على أن ثلث الأراضي المزروعة في إنجلترا، يقوم مزارعون مستأجرون على زراعتها، يمكن إلغاء عقود إيجارهم خلال مهلة قصيرة.

وتتنحى جانباً القضايا المتعلقة بالبيئة، عندما تكون سبل العيش معرضة للخطر، لكن لا ينبغي أن تكون هناك عملية مقايضة صارخة على هذا النحو، فقد عرّت الحرب في أوكرانيا، مخاطر أن تكون الدولة مفرطة الاعتماد على الواردات.

وربما يجب النظر إلى الطعام والأغذية، باعتبارها جزءاً من بنيتنا التحتية الأساسية. وأشارت مينيت باترز، في كلمتها الوداعية رئيسةً للاتحاد الوطني للمزارعين، إلى تلقي ملاك الأراضي في المملكة المتحدة، الذين أقاموا مزارع شمسية مدفوعات مرتبطة بالتضخم طيلة عشرين عاماً، في حين لم يتمتع أولئك ممن أنتجوا المحاصيل بمثل هذه الميزة.

وحين أتحدث إلى مزارعين في المملكة المتحدة، أسمع أناساً يعتبرون أنفسهم مديرين للريف، لكن يشعرون بأنه يتم تصويرهم وكأنهم مخربين. استمع إلى أناس يودون سبر أغوار أعمال الزراعة التجديدية، لكن لا يفعلون ذلك إلا إذا كانوا قادرين على تحمّل كلفته. استمع إلى البعض ممن يتبنون أعلى معايير رفاهة الحيوانات عالمياً، لكن وقفوا يشاهدون حكومة جونسون وهي توقع اتفاقات تجارة حرة لاستيراد مزيد من الأطعمة المُعدّة في ظلال أوضاع أقل آدمية.

لقد ناشد مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، المزارعين، مغادرة التكتل، معتمدين على أسس خيالية، تستند إلى أنهم سيواصلون تلقي ما يربو على ملياري جنيه إسترليني سنوياً من الإعانات. وافترض هؤلاء، على نحو غامض، بأن دافعي الضرائب خارج الاتحاد الأوروبي، سيتوقفون عن دعم المزارعين لزراعة مزيد من الطعام، وسيدفعون لهم عوضاً عن ذلك، لقاء تنفيذ تحسينات بيئية، مثل زراعة أسيجة نباتية وأشجار، أو الحفاظ على الكربون في التربة، لكن المدفوعات الجديدة ليست سوى مجموعة من البرامج المعقدة، تفتقت عن ذهن وزراء ومسؤولين، كان جل اقترابهم من الزراعة متمثلاً في ارتداء زوج من الأحذية المطاطية، والابتسام للكاميرات. ويتبدّى أن مفهوم الحكومة عن «التنوع»، لا يشمل القوى العاملة الزراعية في نهاية المطاف.

وفي عالم متمدن على نحو متزايد، تعامل النخبة السياسية الحضرية، الريف وكأنه ملعباً. وتصر مجموعات المتجولين على الحق في التجول، بيد أن هناك زيادة في إلقاء القاذورات وكلاباً خارجة عن السيطرة تهاجم الخراف. يعرب محبو الحيوانات عن غضبهم إثر إعدام الغرير، لكنهم لا يعرفون سبيلاً إلى إنقاذ الأبقار من السُل. حتى نحن قاطنو لندن، لا نود أن ندفع ثمناً عادلاً لقاء الحليب، على الرغم من إفلاس مزارع الألبان التي ندّعي حب حقولها، تحت وطأة ضغوط متاجر السوبر ماركت. وبالنسبة للمشاهير من ملاك الأراضي، فإنما يُخرجون الأراضي من دورة الإنتاج لأغراض الغسل الأخضر لأنماط حياتهم المعتمدة على الطائرات النفاثة.

لا يتعلق الأمر بمن سيستغل هذه الاحتجاجات، بقدر ما إن كانت شكاوى المزارعين مشروعة. وما يمكن فعله لتخفيف حدة هذه المخاوف؟، وما الجداول الزمنية الواقعية لإحداث تغيير على المشهد؟، نحن بحاجة للتفكير كثيراً في ماهية مستوى الأمن الغذائي الذي نرغب في تحقيقه، وما نحن مستعدون لدفع ثمنه.

كلمات دالة:
  • FT

النخب الحضرية تجاهلت المزارعين أمداً طويلاً

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock